التربية قبل التعليم
ضرورة حضارية لبناء الإنسان
مقالات


في خضمّ التطور العلمي والتقني الذي يشهده العالم، بات من الضروري إعادة النظر في العلاقة بين التربية والتعليم. إذ أثبتت التجارب الإنسانية والتربوية على حد سواء أن التعليم – بمعناه المعرفي والأكاديمي البحت – لا يكفي وحده لبناء الإنسان السوي، بل قد يتحوّل إلى أداة هدم إذا لم يُؤسس على قاعدة أخلاقية وتربوية راسخة. ومن هنا تنبع أهمية شعار: "التربية قبل التعليم"، ليس كمجرد مقولة، بل كمبدأ أساسي في صياغة السياسات التربوية والتعليمية.
مفهوم التربية والتعليم: تمايز وتكامل
من منظور علمي، تُعرف التربية بأنها عملية شاملة تهدف إلى تنمية الفرد من جميع جوانبه: الأخلاقية، النفسية، الاجتماعية، والعقلية، بما يضمن انسجامه مع مجتمعه وتحقيق ذاته ضمن منظومة من القيم. أما التعليم، فهو عملية نقل المعرفة والمهارات من جيل إلى آخر باستخدام وسائل منهجية، هدفها تطوير القدرات الذهنية والعلمية للفرد.
وعلى الرغم من تداخلهما في كثير من الأحيان، إلا أن التربية تسبق التعليم زمنيًا ووظيفيًا؛ إذ أن الإنسان يبدأ بالتفاعل مع محيطه القيمي والاجتماعي منذ الطفولة المبكرة، قبل أن يلتحق بأي مؤسسة تعليمية رسمية. ومن هنا، فإن التربية تُعد الأساس الذي يُبنى عليه التعليم، ومتى غاب هذا الأساس، صار التعليم هشًا وعقيمًا.
التربية كأداة لتوجيه العلم
في غياب التربية، يصبح العلم أداة محايدة قد تُستخدم في الخير أو الشر. إن تاريخ البشرية حافل بأمثلة لأشخاص امتلكوا معرفة هائلة ولكنهم وظّفوها في خدمة الأهواء أو السلطة أو التدمير، من دون أي وازع أخلاقي. ومن هنا، تأتي التربية كعنصر ضابط وموجّه للعلم، فهي التي تمنح المعرفة بُعدها الإنساني، وتزرع في الإنسان المسؤولية الاجتماعية والضمير الأخلاقي.
التربية في المنظور الإسلامي
ينظر الإسلام إلى التربية على أنها مقدمة ضرورية لأي عملية تعليمية. فقد اهتمّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، منذ بداية دعوته، بتربية أتباعه على الصدق، الأمانة، الصبر، والعدل، قبل أن يُكلّفهم بأداء العبادات أو فهم تفاصيل الشريعة. وكان القرآن الكريم نفسه كتاب تربية قبل أن يكون كتاب أحكام. قال تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة" [الجمعة: 2]، فبدأ بالتزكية (أي التربية) قبل التعليم.
أزمة التعليم المعاصر: غياب البعد التربوي
تعاني الأنظمة التعليمية المعاصرة من أزمة حقيقية تتجلى في التركيز المفرط على التحصيل العلمي، والسباق نحو الشهادات والتصنيفات، على حساب البعد التربوي والأخلاقي. ونتيجة لذلك، نشأت أجيال قد تتمتع بذكاء معرفي مرتفع، ولكنها تفتقر إلى الذكاء الأخلاقي والانفعالي، ما يؤدي إلى انتشار ظواهر مثل العنف المدرسي، ضعف الانتماء، تدهور القيم، وتراجع الحسّ بالمسؤولية.
التربية كأداة لبناء المجتمعات المستدامة
تُعد التربية أساسًا لبناء مجتمعات قائمة على التسامح، والاحترام المتبادل، والمواطنة الصالحة. فالمجتمع المتحضر لا يُقاس فقط بعدد العلماء أو المبدعين، بل بمدى التزام أفراده بالقيم الإنسانية العليا. من هنا، فإن الاستثمار في التربية هو استثمار في المستقبل، لا يقل أهمية عن الاستثمار في التكنولوجيا أو الاقتصاد.
خاتمة
إن الدعوة إلى تقديم التربية على التعليم ليست مجرد مثالية حالمة، بل هي مطلب علمي وإنساني ملحّ في ظل عالم يشهد اضطرابات أخلاقية متزايدة. فالمعرفة وحدها لا تصنع الإنسان، وإنما الإنسان يُصاغ من خلال قيمه، وسلوكه، وتفاعله الإنساني. لذلك، يجب أن نعيد صياغة مناهجنا التربوية والتعليمية بحيث تكون التربية هي البوصلة التي توجّه التعليم نحو تحقيق التنمية الشاملة وبناء الإنسان المتكامل.